فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمّن {تنصرون} معنى النجاة فعدي الفعل بـ مِن، أي لا تنجون من عذابنا.
فثَمّ مضاف محذوف بعد مِن، وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال.
وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.
وقوله: {قد كانت آياتي تتلى عليكم} استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف.
وإنما لم تعطف الجملة على جملة {إنكم منا لا تنصرون} لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.
والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة {تتلى} إذ التلاوة القراءة.
والنكوص: الرجوع من حيث أتى، وهو الفرار.
والأعقاب: مؤخر الأرجل.
والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل.
وقد تقدم في قوله تعالى: {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} في سورة الأنفال (48).
وذكر فعل كنتم للدلالة على أن ذلك شأنهم.
وذكر المضارع للدلالة على التكرر فلذلك خُلق منهم مُعاد مكرورٌ.
وضمير {به} يجوز أن يكون عائدًا على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون {مستكبرين} بمعنى معرضين استكبارًا ويكون الباء بمعنى عن، أو ضمّن {مستكبرين} معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه.
ويجوز أيضًا أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويُعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكرت تلاوة الآيات عليهم.
وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم.
فتكون الباء للظرفية. وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم.
وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهرًا للتواضع ومكارم الأخلاق، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتًا لله حنيفًا أشنعُ استكبار.
وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله: {به} للنبيء صلى الله عليه وسلم والباء حينئذٍ للتعدية، وتضمين {مستكبرين} معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب.
{وسامرًا} حال ثانية من ضمير المخاطبين، أي حال كونكم سامرين.
والسامر: اسم لجمع السامرين، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته، أو ضوء قمره.
وأطلق السمر على الكلام في الليل، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال.
وعندي أنه يجوز أن يكون {سامرًا} مرادًا منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلًا ويكون نصبه على نزع الخافض، أي في سامركم، كما قال تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29].
{وتُهجِرون} بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر: إذا قال الهُجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيء.
وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا.
والجملة في موضع الصفة ل {سامرًا}، أي في حال كونكم متحدثين هجرًا وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيَّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة، وأنه سبحانه ما كلّفك إلا بعد عِلْمه بقدرتك، وأنك تسع هذا التكليف، فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول: أنا أسعه أو لا أسعه، لكن أنظر إلى التكليف: ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يُخفِّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك. والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج.. إلخ.
والآن نسمع مَنْ يقول: لم تَعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف، فالزمن تغيّر، والأعمال والمسئوليات كثرت، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله. ونقول ما دام التكليف باقيًا فالوُسْع بَاقٍ، والحق- سبحانه وتعالى- أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم.
إذن: أنا أنظر أولًا إلى التكليف، ثم أحكم على الوُسْع من التكليف، ولا أحكم على التكليف من الوُسْع.
ثم يقول سبحانه: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] المراد هنا كتاب أعمالنا الذي سجّل فيه كل شيء قدّمته الأيدي، لكن: ما الحكمة من تسجيل الأعمال؟ وهل يُكذِّب العباد ربهم عز وجل فيما سُجِّل عليهم؟
قالوا: الحكمة من تسجيل الأعمال أن تكون حجة على صاحبها، وليعلم أن الله ما ظلمه شيئًا؛ لذلك سيقول له ربه: {اقرأ كتابك} [الإسراء: 14] يعني: بنفسك حتى تُقام عليك الحجة، ولا يكون عندك اعتراض.
ثم قال بعدها: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] لأن الظلم لا يُتصوّر من الحق- سبحانه وتعالى- فالظلم نتيجة الحاجة، وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة عَمَّا عندك، فالظلم إذن نتيجة الحاجة، والحق سبحانه هو المعطي، وهو الغني الذي لا حاجةَ له إلى أحد، فلماذا يظلم؟
كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره ليسُدّ حاجته أو شهوته، ولو كان قويًا لكفى نفسه بمجهوده.
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ}.
{بَلْ} [المؤمنون: 63] حرف يدل على الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات الحكم للكلام بعدها. والغَمْرة كما قلنا: هي جملة الماء الذي يعلو قامة الإنسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه الهواء، وهو أول مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
فالإنسان يصبر على الطعام شهرًا، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام لعشرة، إنما لا يصبر على النَّفَس إلا بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء، فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لأكبر كمية من الهواء، وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول، أما إن كانت الرئة مُعتَلّة، فإنها لا تتسع لكمية كبيرة، وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت الإنسان.
ومن التنفس جاءت المنافسة، كما في قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26] ثم استُعمِلَتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة.
لذلك الخالق-عز وجل- حينما خلق هذه البِنْية الإنسانية جعل لها نظامًا فريدًا في وقودها وغذائها على خلاف صَنْعة البشر، فلو منعتَ البنزين مثلًا عن السيارة توقفتْ، أمّا صنعة الخالق-عز وجل- فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء، ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة، وقد علم الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب، وأخذْك منهما فوق حاجتك، فإنْ غاب عنك الطعام تغذَّى جسمك من هذا المخزن الرباني.
لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول: نفس انصدت عن الأكل، والحقيقة أنه أكل فعلًا، وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه.
ومن حكمة الله أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم، الذي يتحول تلقائيًا إلى أيِّ عنصر آخر يحتاجه الجسم، فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلات، ثم على العظام، وهي آخر مخزن للقوت في جسم الإنسان؛ لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4].
أما الهواء فليس له مخزن إلا بقدْر ما تتسع له الرئة، فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فلا حيلة فيه، ومن رحمة الله بعباده ألاّ يُملِّك الهواء لأحد، فقد يملك الطعام وربما يملك الماء، أمّا الهواء الذي يحتاجه في كل نفَس، فقد جعله الله مِلْكًا للجميع، حتى لا يمنعه أحد عن أحد؛ لأنك لا تستطيع أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب، ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أنْ يرضى عنك.
ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم، إنما تحتوي القلوب: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 63] وهذه بلوى أعظم؛ لأن القلب محلٌّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل، ويُميِّز بينها ويختار منها ويُرجّح، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هَدْيها تسير في حركة الحياة.
لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلاء أعظم؛ لأنه مُسْتودع العقائد والمبادئ التي تُنير لك الطريق.
والقلب هو محلُّ نظر الله إلى عباده، لذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].
وقال سبحانه: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] لأنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه، ولأنه سبحانه ربٌّ متولٍّ ربوبية الخلق، يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفرًا؛ لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر؛ لأنهم عشقوا الكفر وأحبّوه.
لذلك نقول لأهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه، ويبالغون بإقامة المآتم والسرادقات، ويقيمون ذكرى الخميس والأربعين وغيرها، وربما كان الابن عاقًا لوالديه في حياتهما، فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس، وهو كما قال الشاعر:
لاَ أَعْرِفنَّك بعْد الموتِ تَنْدِبني ** وفِي حََيَاتي مَا بَلَّغْتَني زَادَا

أو الأم التي فقدت وحيدها مثلًا، فتعيش حزينة مُكدّرة، وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته، نحذر هؤلاء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم، فالحزن إنْ رأى بابه مُواربًا دخل وظَلّ معك ولازمك.
وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه لا يرفع بلاءً عن عبده حتى يرضى به، ولنا القدوة في هذه المسألة بأبينا إبراهيم- عليه السلام- حين ابتلاه ربه بذبح ولده في رؤيا رآها، واعتبرها هو تكليفًا، ورضي بقدر الله وسلم لأمره، ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى لا يحرمه هذا الأجر ولا يأخذه على غِرّة، فيتغير قلبه عليه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103- 107].
فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء الله رفع عنهما البلاء، وجاءهما الفداء من الله لإسماعيل، بل وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أجيال متعاقبة جاءتْ فضلًا من الله وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف:
سَلِّمْ لربك حُكْمه فَلحكْمةٍ ** يَقْضِيِه حتّى تسْتريح وتَغْنَما

واذكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْح ابنهِ ** إذْ قالَ خالقُه فَلمّا أسْلَما

إذن: إذا كانت القلوب نفسها في غمرة، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك. وقد أخذ القلب هذه الأهمية؛ لأنه معمل الدم، ومصدر سائل الحياة، فإنْ فسدَ لابد أنْ ينضح على باقي الجوارح، فتفسد هي الأخرى، ولو كان القلب صالحًا فلابُدّ أنْ ينضحَ صلاحه على الجوارح كلها فتصلح، كما جاء في الحديث الشريف: «ألا إن في الجسد مُضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
ثم يقول سبحانه: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا، وإنْ كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم-عز وجل- يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون.